فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: آية 286]:

{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)}.
الوسع: ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ولا يحرج فيه، أي لا يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقه ويتيسر عليه دون مدى الطاقة والمجهود. وهذا إخبار عن عدله ورحمته كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلى أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. وقرأ ابن أبى عبلة وسعها بالفتح {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} ينفعها ما كسبت من خير ويضرها ما اكتسبت من شر، لا يؤاخذ بذنبها غيرها ولا يثاب غيرها بطاعتها. فإن قلت: لم خص الخير بالكسب، والشر بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمّارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجدّ، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. أي لا تؤاخذنا بالنسيان أو الخطأ إن فرط منا. فإن قلت: النسيان والخطأ متجاوز عنهما، فما معنى الدعاء بترك المؤاخذة بهما؟ قلت: ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال. ألا ترى إلى قوله: {وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ} والشيطان لا يقدر على فعل النسيان، وإنما يوسوس فتكون وسوسته سببًا للتفريط الذي منه النسيان، ولأنهم كانوا متقين اللَّه حق تقاته، فما كانت تفرط منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانًا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به، فما فيهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل اللَّه لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه. والإصر: العبء الذي يأصر حامله أي يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله، استعير للتكليف الشاقّ، من نحو قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وغير ذلك. وقرئ: {آصارًا} على الجمع. وفي قراءة أبىّ: {ولا تحمل علينا} بالتشديد. فإن قلت: أي فرق بين هذه التشديدة والتي في: {وَلا تُحَمِّلْنا}؟
قلت: هذه للمبالغة في حمل عليه، وتلك لنقل حمله من مفعول واحد إلى مفعولين {وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} من العقوبات النازلة بمن قبلنا، طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وقيل: المراد به الشاقّ الذي لا يكاد يستطاع من التكليف. وهذا تكرير لقوله: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا}. مَوْلانا سيدنا ونحن عبيدك. أو ناصرنا. أو متولى أمورنا {فَانْصُرْنا} فمن حق المولى أن ينصر عبيده.
أو فإنّ ذلك عادتك. أو فإنّ ذلك من أمورنا التي عليك توليها. وعن ابن عباس «أنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما دعا بهذه الدعوات، قيل له عند كل كلمة: قد فعلت» وعنه عليه السلام: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وعنه عليه السلام: «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهنّ نبىٌّ قبلي» وعنه عليه السلام: «أنزل اللَّه آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل».
فإن قلت: هل يجوز أن يقال: قرأت سورة البقرة أو قرأت البقرة. قلت: لا بأس بذلك.
وقد جاء في حديث النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من آخر سورة البقرة» و«خواتيم سورة البقرة» و«خواتيم البقرة».
وعن علىّ رضي اللَّه عنه «خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش».
وعن عبد اللَّه بن مسعود رضى اللَّه عنهما أنه رمى الجمرة ثم قال «من هاهنا- والذي لا إله غيره- رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة».
ولا فرق بين هذا وبين قولك سورة الزخرف وسورة الممتحنة وسورة المجادلة. وإذا قيل:
قرأت البقرة، لم يشكل أنّ المراد سورة البقرة كقوله: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ}. وعن بعضهم أنه كره ذلك وقال: يقال قرأت السورة التي تذكر فيها البقرة.
عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإنّ تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة. قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}.
التفسير: إنه تعالى لما جمع في هذه السورة أشياء كثيرة من علم الأصول وهي دلائل التوحيد والنبوة والمعاد وأشياء كثيرة من بيان الشرائع والتكاليف كالصلاة والزكاة والقصاص والصوم والحج والجهاد والحيض والطلاق والعدة والصداق والخلع والإيلاء والإرضاع والبيع والربا والمداينة، ختم السورة بكلام دل على كماله ملكه وهو قوله: {لله ما في السموات وما في الأرض} وعلى كمال علمه وهو قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} وعلى كمال قدرته وهو قوله: {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} وفي ذلك غاية الوعد للمطيعين ونهاية الوعيد للمذنبين. وعن أبي مسلم أنه لما قال: والله بما تعملون عليم. ذكر عليه دليلًا عقليًا فإن من كان فاعلًا لهذه الأفعال المحكمة المتقنة المشتملة على الحكم المتكاثرة والمنافع الفاخرة لابد أن يكون محيطًا بأجزائها وجزئياتها. وقيل: لما أمر بالوثائق من الكتبة والأشهاد والرهن، ذكر ما علم منه أن المقصود يرجع إلى الخلق وأنه منزه على الانتفاع به. وقال الشعبي وعكرمة ومجاهد: إنه لما أوعد على كتمان الشهادة ذكر أن له ما في السموات وما في الأرض فيجازي على الكتمان والإظهار. عن ابن عباس وأبي هريرة واللفظ له: «لما نزل: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير».
فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله عزّ وجل: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا} قال: نعم، {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال نعم {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال نعم.
واعلم أن العلماء اتفقوا على أن الأمور التي تخطر بالبال مما يكرهها الإنسان ولا يمكنه إزالتها عن النفس، لا يؤاخذ بها لأنها تجري مجرى تكليف ما لا يطاق، وأما الخواطر التي يوطن الإنسان نفسه عليها ويعزم على إدخالها في الوجود فقد قيل: إنه يؤاخذ بها لقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225] وكما يؤاخذ باعتقاد الكفر والبدع وأنه من أفعال القلوب، ثم قال بعضهم: إنما يؤاخذ بها الدنيا لما روى الضحاك عن عائشة أنها قالت: ما حدث العبد به نفسه من شر كانت محاسبة الله عليه. نعم يبتليه في الدنيا أو حزن أو أذى، فإذا جاءت الآخرة لم يسأل عنه ولم يعاقب. وروت أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فأجابها بما هذا معناه. وقيل: إن كل ما كان في القلب مما لا يدخل في العمل فإنه في محل العفو لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال بعد نزول قوله: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا» وقيل: معنى قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} أن يدخل ذلك العمل في الوجود إما ظاهرًا وإما على سبيل الخفية، وعلى هذا فلا حاجة الى التزام النسخ. وكذا لو قيل: إن معنى كونه حسيبًا ومحاسبًا كونه عالمًا بما في الضمائر والسرائر فيغفر لمن يشاء وإن كان من أصحاب الكبائر لعموم اللفظ. وعند المعتزلة لمن استوجب المغفرة بالتوبة وهو تخصيص من غير دليل {ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} مستولِ على كل الممكنات بالقهر والغبة والإيجاد والإعدام. فعلى كل عاقل أن يكون له عبدًا منقادًا خاضعًا لأوامره ومراضيه، محترزًا عن مساخطه ومناهيه ليستحق المدح والثناء بقوله: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون} فإن كمال الربوبية في الواجب يستلزم كمال العبودية في الممكن، وكمال العبودية في الممكن يستتبع كمال الرحمة عليه وذلك قوله: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} إلى آخر السورة.
أو نقول: إنه بدأ السورة بذكر المتقين الذين يؤمنون بالغيب، فبيّن في آخرها أن الذين مدحتهم في أول السورة هم أمة محمد {والمؤمنون كل آمن بالله} ثم قال هاهنا {وقالوا سمعنا وأطعنا} كما قال هناك {ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة: 3] وقال هاهنا {غفرانك ربنا وإليك المصير} كما قال هنالك {وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة: 4] ثم حكى عنهم كيفية تضرعهم إلى ربهم بقوله: {ربنا لا تؤاخذنا} إلى آخر السورة كما قال هناك {أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون} [البقرة: 5] أو نقول: إنه سبحانه لما ذكر في هذه السورة أنواع الشرائع والأحكام، بيّن أن الرسول اعترف لمعجزة دلت على صدق الملك أن ذلك وحي من الله وصل إليه، وأن الذي أخبره بذلك ملك مبعوث من قبل الله معصوم من التحريف وليس بشيطان مضل. ثم ذكر عقيبه إيمان المؤمنين بذلك لمعجزات أظهرها الله تعالى على يد الرسول حتى استدلت الأمة بها على أنه صادق في دعواه وهو المرتبة المتأخرة. ومن تأمل في نظم هذه السورة وفي بدائع ترتيبها علم أن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وبلاغة معانيه، فهو أيضا معجز بحسب ترتيبه ونظم مبانيه. ولعل الذين قالوا إنه معجز بحسب أسلوبه أرادوا ذلك. ثم هاهنا احتمالان: أحدهما أن يكون تمام الكلام عند قوله: {المؤمنون} فيكون المعنى {آمن الرسول} {والمؤمنون} {بما أنزل إليه من ربه} ثم ابتدأ بقول: {كل آمن} فيكون الضمير الذي التنوين نائب عنه في كل عائدًا إلى الرسول والمؤمنين أي كلهم آمن بل كل واحد ممن تقدم ذكره من الرسول والمؤمنين آمن، ولهذا وحد. ومثل هذا الضمير يجوز أن يفرد بمعنى كل واحد، ويجوز أن يجمع كقوله: {وكل أتوه داخرين} [النمل: 87] وهذا الاحتمال يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم ما كان مؤمنًا بربه ثم آمن، فيحمل عدم الإيمان على وقت الاستدلال وذلك أنه عرف بما ظهر من المعجزات على يد جبريل عليه السلام أن هذا القرآن وجملة ما فيه من الشرائع والأحكام منزل من عند الله تعالى وليس من باب إلقاء الشياطين ولا من نوع السحر والكهانة والشعبذة. والاحتمال الثاني أن يتم الكلام عند قوله: {من ربه} ثم ابتدأ من قوله: {والمؤمنون كل آمن بالله} وفي هذا الاحتمال إشعار بأن الذي حدث هو إيمانه بالشرائع التي نزلت عليه كما قال: {ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52] أما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على الإجمال فقد كان حاصلًا منذ خلق من أول الأمر بل كان نبيًا وآدم بين الماء والطين، كما أن عيسى خلق كامل العقل حتى قال في المهد: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيًا} [مريم: 30] وعلى هذا فإنما خص الرسول بذلك لأن الذي أنزل إليه من ربه قد يكون متلوًا يسمعه الغير ويعرفه فيمكنه أن يؤمن به، وقد يكون وحيًا لا يعلمه سواه. فيكون هو صلى الله عليه وسلم مختصًا بالإيمان به ولا يتمكن الغير من الإيمان به.
واعلم أن الآية دلت على أن معرفة هذه المراتب الأربع من ضروريات الإيمان:
المرتبة الأولى هي الإيمان بالله سبحانه فإن صدق المبلغ والرسول يتوقف على وجود المبلغ والمرسل.
والثانية الإيمان بالملائكة فإنهم وسائط بين الله وبين البشر. {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده} [النحل: 2] {علمه شديد القوى} [النجم: 5].
والثالثة الكتب فإنه الوحي الذي يتلقفه الملك ويوصله إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فمثال الملك في عالم الصورة جرم القمر، ومثال الوحي نور القمر. فكما أن القمر يستفيد من نور الشمس ويوصله إلينا فكذا الملك يأخذ الوحي من الله تعالى ويلقيه على الأنبياء فلا جرم وقع الرسل في المرتبة الرابعة. وهذا الترتيب مما تقتضيه حكمة عالم التكليف والوسائط وإلا فمقام لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل معلوم لنبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا سر تطلع منه على أسرار أخرى إن كنت من أهلها، ثم الإيمان بالله عبارة عن الإيمان بوجوده وبصفاته وبأفعاله بأحكامه وبأسمائه. أما الإيمان بوجوده فهو أن تعلم أن وراء المتحيزات موجودًا خالقًا لها، وعلى هذا التقدير فالمجسم لا يكون مقرًا بوجود الإله تعالى فيكون الخلاف معهم في ذات الله تعالى. وأما الفلاسفة والمعتزلة فالخلاف معهم في الصفات لا في الذات، لأنهم مقرون بوجود موجود غير متحيز ولا حال في المتحيز، وأما الإيمان بصفاته فالصفات إما ثبوتية أو سلبية أو إضافية. وقد عرفت في تفسير البسملة ما يصح وصفه تعالى بها وما لا يصح، وكذا في تفسير آية الكرسي. وأما الإيمان بأفعاله فأن تعلم أن كل ما سواه فإنما حصل بتخليقه وتكوينه حتى الأفعال التي تسمى اختيارية للحيوانات، وذلك أن مشيئة الإنسان محدثة منتهية إلى الله سبحانه فهو مضطر في صورة مختار.
وقد حققنا هذه المسألة في تفسير قوله: {ختم الله على قلوبهم} [البقرة: 7] وأما الإيمان بأحكامه فإن تعلم أنها غير معللة بغرض وإن كان يترتب عليها الفوائد، وأن تعلم أن المقصود من شرعها منافع عائدة إلى العباد لا إلى الله فإنه منزه عن جلب المنافع ودفع المضار، وأن تعلم أن له الإلزام والحكم في الدنيا كيف شاء وأراد، وأن تعلم أنه لا يجب على الحق بسبب الأعمال شيء، وأنه في الآخرة يغفر لمن يشاء بفضله ويعذب من يشاء بعدله ولا يقبح منه شيء، لأن الكل ملكه وملكه.
وأما الإيمان بأسمائه فهي الأسماء الواردة في كتب الله المنزلة وفي كلمات أنيبائه المرسلة، وقد مر في تفسير البسملة فهذا هو الإشارة إلى معاقد الإيمان بالله. وأما الايمان بالملائكة فهو الإيمان بوجودها. فأما البحث عن أنها روحانية محضة، أو جسمانية محضة، أو مركبة من القسمين، وبتقدير كونها جسمانية فلطيفة أو كثيفة، وإن كانت لطيفة فنورانية أو هوائية فذاك مقام العلماء الراسخين في العلوم القرآنية والبُرهانية ويدخل في الإيمان بالملائكة اعتقاد أنهم معصومون، وأن لذتهم بذكر الله، وحياتهم بمعرفته وطاعته، وأنهم وسائط بين الله وبين البشر، وبهم وصلت الكتب إلى الأنبياء، ولكل طائفة منهم مقام معلوم وجزء مقسوم من أقسام هذا العالم. وأما الإيمان بالكتب فإن تعلم أن كلها وحي من عند الله وليس لأحد من المخلوقات أن يلقي فيها شيئًا من ضلالاتهم ولاسيما في القرآن العظيم. وإن من قال: إن ترتيب القرآن على هذا الوجه شيء فعله عثمان، فقد أخرج القرآن عن كونه حجة وطرق إليه التغيير والتحريف. وأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، ومحكمه يكشف عن متشابهه. وأما الإيمان بالرسل فإن تعلم كونهم معصومين عن الذنوب في باب الاعتقاد في أمر التبيلغ وفي الفتيا وفي الأخلاق وفي الأفعال كما مر في قصة آدم، وأن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل ممن ليس بني خلافًا لبعض الصوفية، وأن بعض الأنبياء أفضل من بعض كما قال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] وأما فضلهم على الملائكة فقد قال بعضهم: إن الأنبياء أفضل من الملائكة. وقال كثير من العلماء: إن الملائكة السماوية أفضل منهم وإنهم أفضل من الملائكة الأرضية. وقد مر تحقيق ذلك في قصة آدم أيضًا. وأن تعلم أن شرعهم وإن صار منسوخًا إلا أن نبوتهم لم تصر منسوخة. وإنهم الآن أنبياء ورسل كما كانوا، وناقش بعض المتكلمين في ذلك. فهذه إشارة إلى أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله. وأما من قرأ: {وكتابه} على الوحدة فإما أن يراد به القرآن، ثم الإيمان به يتضمن الإيمان بمجموع الكتب والرسل. وإما أن يراد به جنس الكتب السماوية فإن اسم الجنس المضاف قد يفيد العموم كقوله: {وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34] وقال: {احل لكم ليلة الصيام الرفث} [البقرة: 187] وهذا الإحلال شائع في جميع الصيام. قال العلماء: قراءة الجمع أولى لمشاكلة ما قبله وما بعده. وقيل: قراءة الإفراد أولى لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع. ومن هنا قال ابن عباس: الكتاب أكثر من الكبت. ومن قرأ: {لا نفرق} بالنون فلابد من إضمار أي يقولون لا نفرق. ومن قرأ بالياء على أن الفعل لكل فلا حاجة إلى الإضمار، ثم إن الجملة خبر أو حال واحد في معنى الجمع.
أي بين كل منهم وبين آخر منهم، فإن النكرة في سياق النفي تعم ولذلك صلحت لدخول بين عليها. وليس المراد بعدم التفريق عدم التفضيل لقوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} [البقرة: 253] بل المراد عدم التفريق في الإيمان بهم وفي اعتقاد بنوتهم لظهور المعجزات على أيديهم حسب دعاويهم. والغرض منه تزييف معتقد اليهود والنصارى الذين يقرون بنبوة موسى وعيسى دون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وعن أبي مسلم: لا نفرق ما جمعوا كقوله: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} [آل عمران: 103] واعلم أن قوله: {آمن الرسول} إلى قوله: {بين أحد من رسله} إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة {وقالوا سمعنا وأطعنا} إشارة إلى استكمال القوة العملية بالأعمال الفاضلة الكاملة. أو نقول: إن للإنسان إيامًا ثلاثة الأمس والبحث عنه يسمى معرفة المبدأ، واليوم والبحث عنه يسمى بالوسط، والغد والفحص عنه يسمى بعلم المعاد. فقوله: {آمن الرسول} إلى قوله: {من رسله} إشارة إلى معرفة المبدأ {وقالوا سمعنا وأطعنا} إشارة إلى الوسط و{غفرانك ربنا وإليك المصير} علم المعاد ومثله في آخر سورة هود {ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله} [هود: 123] وهو معرفة المبدأ لأن الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة. وقوله: {ولله غيب السموات والأرض} [هود: 123] فيه بيان كمال العلم، وقوله: {وإليه يرجع الأمر} فيه كمال القدرة. وأما علم الوسط وهو علم ما يجب أن يشتغل به اليوم فبدايته الاشتغال بالعبودية وهو قوله: {فاعبده} [هود: 123] ونهايته قطع النظر عن الأسباب، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب وهو قوله: {وتوكل عليه} [هود: 123] وأما علم المعاد فقوله: {وما ربك بغافل عما تعملون} [هود: 123] أي ليومك غد سيصل إليك فيه نتائج أعمالك ومثله {سبحان ربك رب العزة عما يصفون} [الصافات: 180] وهو معرفة المبدأ {وسلام على المرسلين} [الصافات: 181] وفيه إشارة إلى عالم الوسط {والحمد لله رب العالمين} [الصافات: 182] إشارة إلى علم المعاد كقوله: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] والوقوف على هذه الأسرار إنما يكون بجذبة من ضيق عالم الأسرار إلى فسحة عالم الأنوار. أو نقول: {والمؤمنون كل آمن بالله} إشارة إلى الأحكام العقليات {وقالوا سمعنا وأطعنا} إشارة إلى الأحكام السمعيات. قال الواحدي: أي سمعنا قوله وأطعنا أمره. وقيل: حذف المفعول صورة. ومعنى هاهنا أولى ليفيد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله، ولا أمر تجب إطاعته إلا أمره. والسماع هاهنا بمعنى القبول أي سمعناه بآذان عقولنا وعرفنا صحته وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم السلام، فهو حق صحيح واجب قبوله، ثم قال: {وأطعنا} فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها، فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكاليف علمًا وعملًا.
{غفرانك} مصدر منصوب بإضمار فعله أي اغفر. ويقال: غفرانك اللهم لا كفرانك. من قوله: {وما يفعلوا من خير فلن يكفروه} [آل عمران: 115] أي لن تعدموا جزاءه. وفي الكشاف: أي نستغفرك ولا نكفرك. وقيل: معناه نسألك غفرانك فيكون مفعولًا به. والأشهر أنه مصدر حذف فعله وجوبًا لكثرة الاستعمال وللاستغناء به عن فعله نحو: سقيًا ورعيًا. وهاهنا سؤال وهو أن القوم لما قبلوا التكليف وعملوا به فأي حاجة بهم إلى طلب المغفرة؟ والجواب لعلهم خافوا أن يكون قد فرط منهم تقصير فيما يأتون ويذرون، أو لعلهم كانوا يرتقون في درجات العبودية فيستغفرون مما قد خلفوها، ومن هاهنا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد حمل قوله صلى الله عليه وسلم: «وإني لأستغفر الله في اليوم سعبين مرة» على مثل هذا. ولأن جميع الطاعات في جنب مواجب حقوق الإلهية جنايات وتقصير وقصور، ولهذا حكى عن أهل الجنة {دعواهم فيها سبحانك اللهم} [يونس: 10] أي أنت منزه عن تسبيحنا وتقديسنا {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] أي كل الحمد له، وإن كنا لا نقدر على فهم ذلك الحمد بعقولنا ولا على ذكره بألسنتنا. ثم إن طلب هذا الغفران مقرون بأمرين: أحدهما بالإضافة إليه، والثاني بقوله: {ربنا} أما القيد الأول فمعناه أطلب المغفرة منك وأنت الكامل في هذه الصفة والمطموع من الكامل في صفة أن يعطي عطية كاملة، وما ذاك إلا بأن يغفر جميع الذنوب ويبدّلها حسنات. أو تكون الإضافة إشارة إلى ما ورد في الحديث: «إن لله تعالى مائة جزء من الرحمة قسم جزءًا منها على الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوانات فبها يتراحمون ويتعاطفون. وأخر تسعة وتسعين جزءًا ليوم القيامة» أو لعل العبد يقول: كل صفة من صفاتك فإنما يظهر أثرها في محل معين. فلولا الوجود بعد العدم لما ظهرت آثار قدرتك، ولولا الترتيب العجيب والتأليف الأنيق لما ظهرت آثار علمك، ولولا جرم العبد وجنايته وعجزه وحاجته لم يظهر آثار مغفرتك ورأفتك. فأنا أطلب الغفران الذي لا يمكن ظهوره إلا في حقي وفي حق أمثالي من المذنبين. وأما القيد الثاني فمعناه ربيتني إذ أوجدتني مع أنك لو لم تربني في ذلك الوقت لم أتضرر به لأني كنت أبقى في العدم، والآن لو لم تربني أتضرر به فأسألك أن لا تهملني. أو ربيتني حين لم أذكرك بالتوحيد فكيف يليق بكرمك أن لا تربيني وقد أفنيت عمري في توحيدك؟ أو ربيتني في الماضي فاجعل تربيتك لي في الماضي شفيعًا إليك في أن تربيني في المستقبل، أو ربيتني فيما مضى فأتمم هذه التربية فيما يستقبل فإن إتمام المعروف خير من ابتدائه، {وإليك المصير} حيث لا حكم إلا حكمك ولا يشفع أحد إلا بإذنك.
وفيه اعتراف بأنه تعالى عالم بالجزئيات قادر على كل الممكنات، له المحيا وله الممات. قوله سبحانه: {لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها} إن قلنا إنه من تمام كلام المؤمنين فوجه النظم أنهم قالوا: كيف لا نسمع ولا نطيع وإنه تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا وطاقتنا. وإن قلنا إنه من كلام الله تعالى مستأنفًا فالوجه أنهم لما قالوا سمعنا وأطعنا ثم طلبوا المغفرة، دل ذلك على أنه لا يصدر عنهم زلة إلا على سبيل السهو والنسيان، فلا جرم خفف الله تعالى عنهم إجابة لدعائهم. والوسع ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه كالصلوات الخمس وصوم رمضان والحج، فإنه كان من إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. ولكنه تعالى ما جعل في الدين من حرج لكمال رحمته وشمول رأفته. واعلم أن المعتزلة عولوا في نفي تكليف ما لا يطاق على هذه الآية، ثم استنبطوا منها أصلين: الأول أن العبد موجد لأفعال نفسه إذ لو كان بتخليق الله تعالى لم يكن للعبد قدرة على دفعها لضعف قدرته، ولا على فعلها إذ الموجود لا يوجد. ثانيًا، فتكليف العبد بالفعل يكون تكليف ما لا يطاق. الثاني أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لكان المأمور بالإيمان غير قادر عليه، فيلزم تكليف ما لا يطاق. أما الأشاعرة فقالوا: تكليف من مات على الكفر كأبي لهب مع العلم بعدم إيمانه تكليف بالجمع بين النقيضين. والجواب أن العلم بعدم الإيمان ليس تكليفًا بعدم الإيمان حتى يلزم التكليف بالنقيضين، والتكليف بأمر ممكن لذاته ممتنع لغيره غير التكليف بأمر مستحيل لذاته الذي هو محل النزاع. لكن الأشعري لما كانت حجته قوية عنده خصص الآية بأنها إنما وردت في التكاليف الممكنة، إذ التكليف بالممتنع ليس تكليفًا بالحقيقة وإنما هو إعلام وإشعار بأنه خلق من أهل النار. على أنه لو جعلت من قول المؤمنين لم يبق فيها حجة، ويحتمل أن يقال: لما حكاه عنهم في معرض المدح وجب أن يكونوا صادقين فيه {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} قال الواحدي: إن الكسب والاكتساب واحد. قال تعالى: {ولا تكسب كل نفس إلا عليها} [الأنعام: 164] وقيل: الاكتساب أخص لأن الكسب لنفسه ولغيره، والاكتساب ما يكتسب لنفسه خاصة. وقيل: في الاكتساب مزيد اعتمال وتصرف لهذا خص بجانب الشر دلالة على أن العبد لا يؤاخذ من السيئات إلا بما عقد الهمة عليه وربط القلب به بخلاف الخير فإنه يثاب عليه كيفما صدر عنه. قالت المعتزلة: في الآية دليل على أن الخير والشر كلاهما مضاف إلى العبد، ولو كانا بتخليق الله تعالى لبطلت هذه الإضافة وجرى صدور أفعاله منه مجرى لونه وطوله وشكله مما لا قدرة له عليه ألبتة، ولانتفت فائدة التكليف وقد سبق تحقيق المسألة مرارًا، وكذا تفسير الكسب وبيان المذاهب فيه في تفسير وبيان المذاهب فيه في تفسير قوله: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم} [البقرة: 134]. واحتج الأصحاب بالآية على فساد القول بالمخاطبة لأنه تعالى بيّن أن لها ثواب ما كسبت وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريح في أن الاستحقاقين يجتمعان، وأنه لا يلزم من طرّو أحدهما زوال الآخر. وقال الجبائي: تقدير الآية لها ما كسبت من ثواب العمل الصالح إذا لم يبطله، وعليها ما اكتسبت إذا لم يكفر بالتوبة وإنما أضمرنا هذا الشرط لأن الثواب منفعة دائمة والعقاب مضرة دائمة، والجمع بينهما محال. واحتج كثير من المتكلمين بالآية في أن الله تعالى لا يعذب الأطفال بذنوب آبائهم، والفقهاء تمسكوا بها في إثبات أن الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار. وفرعوا لعيه مسائل منها: أن المضمونات لا تملك بأداء الضمان، لأن المقتضى لبقاء الملك قائم وهو قوله: {لها ما كسبت} والعارض الموجود إما الغصب وإما الضمان وهما لا يوجبان زوال الملك بدليل أم الولد والمدبر. ومنها أنه لا شفعة للجار لأن المقتضي لبقاء الملك قائم وهو قوله: {لها ما كسبت} عدلنا عن الدليل في الشريك لكثرة تضرره بالشركة فيبقى في الجار على الأصل. ومنها أن القطع لا يسقط الضمان لوجود المقتضي، والقطع لا يوجب زوال الملك بدليل أن المسروق متى كان باقيًا وجب رده على المالك. ومنها أن منكري وجوب الزكاة احتجوا به، والجواب أن دلائل وجوب الزكاة أخص والخاص مقدم على العام.
ثم إنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء:
الأول {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} ومعنى لا تؤاخذنا لا تعاقبنا. وقد يكون فاعل بمعنى فعل نحو: سافرت وعاقبت اللص. وقيل: معنى المشاركة هاهنا أن الناسي قد أمكن من نفسه وطرّق السبيل إليها بفعله فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه. وفي التفسير الكبير: إن الله يأخذ المذنب بالذنب والمذنب يأخذ ربه بالعفو والكرم أي يتمسك عند الخوف من عذابه برحمته، وهذا معنى المؤاخذة بين العبد والرب. والمراد بالنسيان إما الترك وهو أن يترك الفعل لتأويل فاسد كما أن الخطأ هو أنه يفعل الفعل لتأويل فاسد ومنه قوله تعالى: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة: 67] أي تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم، وإما ضد الذكر. وأورد عليه أن النسيان والخطأ متجاوز عنهما في قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» فما معنى الدعاء؟ والجواب من وجوه: الأول أن النسيان منه ما يعذر صاحبه فيه ومنه ما لا يعذر. فمن رأى دمًا في ثوبه وأخر إزالته إلى أن نسي فصلى وهو على ثوبه عد مقصرًا إذا كان يلزمه المبادرة إلى إزالته.
وكذا إذا تغافل عن تعاهد القرآن حتى نسي فإنه يكون ملومًا بخلاف ما لو واظب على القراة ومع ذلك نسي فإنه يكون معذورًا. وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطًا في أصبعه فثبت أن الناسي قد لا يكون معذورًا وذلك إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء. والحاصل أنه ذكر النسيان والخطأ والمراد بهما ما هما مسببان عنهما من التفريط والإغفال. الثاني أن هذا على سبيل الفرض والتقدير وذلك أنهم كانوا متقين لله حق تقاته، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه الخطأ والنسيان، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانًا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به فكأنه قيل: إن كان النسيان مما يجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به. الثالث أن العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه بالدعاء، فربما يدعو الإنسان بما يعلم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله إما لاستدامته وإما لاعتداد تلك النعمة أو لغير ذلك كقوله: {قل رب احكم بالحق} [الأنبياء: 112] {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} [آل عمران: 194] وقالت الملائكة: {فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} [غافر: 7]. الرابع أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلًا وإنما عرف عدم المؤاخذة بالآية والحديث، فلما كان ذلك جائزًا في العقل حسن طلب المغفرة منه بالدعاء. وقد يتمسك به من يجوّز تكليف ما لا يطاق فيقول الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنه جائز من الله تعالى عقلًا لما أرشد الله تعالى إلى طلب ترك المؤاخذة عليه. وقد يستدل به على حصول العفو لأهل الكبائر قالوا: إن النسيان والخطأ لابد أن يفسرا بما فيه العمد والقصد إلى فعل ما لا ينبغي. إذ لو فسرا بما لا عمد فيه فالمؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم، وما يقبح من الله فعله يمتنع طلب تركه بالدعاء. وإذا فسرا بما ذكرنا وقد أمر الله المسلمين أن يدعوه بترك المؤاخذة عل تعمد المعصية دل ذلك على أنه يعطيهم هذا المطلوب فيكون العفو لصاحب الكبيرة مرجوًا.
النوع الثاني: من الدعاء {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا} الإصر الثقل والشدة ثم يسمى العهد إصرًا لأنه ثقيل. والإصر العطف لأن من عطفت عليه ثقل على قلبك ما يصل إليه من المكاره. يقال: ما تأصرني على فلان آصرة أي ما تعطفني عليه قرابة ولا منة، والمعنى لا تشدد علينا في التكاليف كما شدّدت على من قبلنا من الهيود، قال المفسرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاة، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها، وكان عذابهم معجلًا في الدنيا.
فأجاب الله تعالى دعاءهم كما قال: {ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم} [الأعراف: 157] وقال صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي المسخ والخسف والغرق» وإنما طلبوا هذا التخفيف لأن التشديد مظنة التقصير والتقصير موجب العقوبة. وقيل: معناه لا تحمل علينا عهدًا أو ميثاقًا يشبه ميثاق من قبلنا في الغلظ والشدة وهو قريب من الأول. قال بعض العلماء: اليهود لما كانت الفظاظة وغلظ القلب غالبة عليهم كانت مصالحهم في التكاليف الشديدة الشاقة، وهذه الأمة الرقة وكرم الخلق غالبة عليهم فكانت مصلحتهم في التخفيف وترك التغليظ. وأما أن اليهود لم خصت بغلظ الطبع وهذه الأمة باللطافة والكرم فليس إلينا أن نعلم تفاصيل جميع الكائنات وما لا يدرك كله لا يترك كله.
النوع الثالث: الدعاء {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} ومن الأصحاب من تمسك به في جواز تكليف ما لا يطاق إذ لو لم يكن جائزًا لما حسن طلب تركه بالدعاء. وأجاب المعتزلة عنه بأن معنى قوله: {لا طاقة لنا} أي ما يشق فعله لا الذي لا قدرة لنا عليه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المملوك: «له طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق» أي لا يشق عليه. وزيف بأن معناه ومعنى الآية المتقدمة يكون حينئذٍ واحدًا فعدلوا عن ذلك وقالوا: المراد منه العذاب أي لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله. سلمنا أنهم سألوا الله تعالى أن لا يكلفهم ما لا قدرة لهم عليه، لكن ذلك لا يدل على جواز أن يفعل خلاف ذلك كما أن قوله: {رب احكم بالحق} لا يدل على جواز أن يحكم بباطل. وكذا قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم {ولا تخزني يوم يبعثون} [الشعراء: 87] لا يدل على أن خزي الأنبياء جائز. قيل: لم خص التكليف الشاق بالحمل والتكليف الذي لا قدرة عليه بالتحميل؟ وأجيب بأن الحاصل فيما لا يطاق هو التحميل دون الحمل. قيل: لما طلب أن لا يكلفه بالفعل الشاق كان من لوازمه أن لا يكلفه بما لا يطاق فكان المناسب طرح هذا الدعاء لا أقل من عكس الترتيب. والجواب على تفسير المعتزلة ظاهر أي لا تحملنا عذابك فإنهم طلبوا الإعفاء عن التكليفات الشاقة التي كلفها من قبلهم، ثم عما نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. وأما على تفسير الأشاعرة فهو أنهم سألوا أن لا يكلفهم تكليفًا شاقًا مقيدًا وهو التكليف بما كلف من قبلهم. ثم سألوا أن لا يكلفهم التكليف الشاق الذي لا قدرة لهم عليه مطلقًا سواء كلف بذلك من قبلهم أم لا. وقيل: الأول طلب ترك التشديد في مقام القيام بظاهر الشريعة، والثاني طلب ذلك في مقام الحقيقة وهو مقام الاشتغال بمعرفة الله وخدمته وطاعته وشكر نعمه أي لا تطلب مني حمدًا يليق بجلالك ولا شكرًا يليق بآلائك ونعمائك، ولا معرفة تليق بقدس عظمتك وكمالك.
وأما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بصيغة الجمع في {لا تؤاخذنا} {ولا تحمل علينا} فذلك أنه إذا اجتمعت النفوس والهمم على كل شيء كان حصوله أرجى. النوع الرابع من الدعاء {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} وإنما حذف النداء وهو قوله ربنا هاهنا لأن النداء يشعر بالبعد. فترك النداء يؤذن بأن العبد إذا واظب على التضرع والدعاء نال مقام القربة والزلفى من الله. والفرق بين العفو والمغفرة والرحمة أن العفو إسقاط العذاب، والمغفرة أن يستر عليه بعد ذلك جرمه صونًا له عن عذاب التخجيل والفضيحة فإن الخلاص من عذاب النار إنما يطيب إذا حصل عقيبة الخلاص من عذاب الفضيحة. فالأول هو العذاب الجسماني والثاني هو العذاب الروحاني. وبعد التخلص منهما أقبل على طلب الثواب وهو أيضًا قسمان: جسماني هو نعيم الجنة وطيباتها وهو قوله: {وارحمنا} وروحاني هو إقبال العبد بكليته على مولاه وهو قوله: {أنت مولانا} ففيه الاعتراف بأنه سبحانه هو المتولي لكل نعمة ينالونها، وهو المعطي لكل مكرمة يفوزون بها، وأنهم بمنزلة الطفل الذي لا تتم مصلحته إلا بتدبير قيمه، والعبد الذي لا ينتظم شمل مهماته إلا بإصلاح مولاه. وبهذا الاعتراف يحق الوصول إلى الحق من عرف نفسه أي بالإمكان والنقصان عرف ربه أي بالوجوب والتمام. ثم إذا وصل إلى الحق أعرض بالكلية عما سواه وهو قوله: {فانصرنا على القوم الكافرين} أعنا على قهر كل من خالفك وناواك وعلى غلبة القوى الجسمانية الداعية إلى ما سواك.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها فإن تعلمها بركة وتركها حسرة ولن تستطيعها البطلة قيل: وما البطلة؟ قال: السحرة» وعنه صلى الله عليه وسلم: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وعنه صلى الله عليه وسلم: «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي» وعنه صلى الله عليه وسلم: «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» وروى الواحدي عن مقاتل بن سليمان أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أعطي خواتيم سورة البقرة فقالت الملائكة له: إن الله عز وجل أكرمك بحسن الثناء بقوله: {آمن الرسول} فاسأله وارغب إليه. فعلّمه جبريل عليه السلام كيف يدعو فقال النبي صلى الله عليه وسلم {غفرانك ربنا} فقال الله: قد غفرت لكم.
فقال: {لا تؤاخذنا} فقال الله: لا أؤاخذكم. فقال: لا تحمل علينا إصرًا. فقال: لا أشدد عليكم. فقال: لا تحملنا ما لا طاقة لنا به. فقال: لا أحملكم ذلك. فقال: {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا} فقال الله: قد عفوت عنكم وغفرت لكم وانصركم على القوم الكافرين. وفي بعض الروايات أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يذكر هذه الدعوات والملائكة كانوا يقولون آمين. اهـ.